الرئيسية
المقاومة
الحياة الإجتماعية
الشتات
إقتصاد وسياسة
الثقافة
إسرائيل
X
كل الكلمات
أي كلمة
الكاتب
من تاريخ
إلى تاريخ
أربع ساعات في شاتيلا
الأسى لا يُنسى
جان جينيه
|
أيلول 2011
قال لي س، في بيروت الغربية، بعد دخول الإسرائيليين:
«كان الليل قد خيّم، وكانت الساعة تشير إلى السابعة. فجأة، قعقعة حديد عالية، حديد، حديد. الجميع هرع إلى الشرفة: أختي، وصهري، وأنا. ليل حالك السواد. ومن فينة لأخرى ما يشبه الوميض يلمع على أقل من مئة متر. أنت تعلم أنه يوجد بمواجهة بيتنا تقريباً، نوع من محطة للقوات الإسرائيلية: أربع دبابات، ومنزل يحتله جنود، وضباط وحراس. الليل. وقعقعة الحديد تقترب. الوميض: مشاعل مضيئة، وحوالى أربعين أو خمسين طفلاً في سن الثانية عشرة، أو الثالثة عشرة، يضربون بإيقاع فوق صفائح حديدة صغيرة، مستعملين أحجاراً، أو مطرقات، أو أشياء أخرى. كانوا يصيحون مع إيقاع شديد: لا إله إلا الله، لا كتائب ولا يهود».
كان سكان المخيمات المعمّرون بؤساء، وربما كانوا كذلك في فلسطين قبل الهجرة، إلا أن الحنين يفعل فيهم فعله بطريقة سحرية. انهم معرّضون لأن يظلوا أسرى لمفاتن المخيم البائسة. وليس من المؤكد أن هذه الفئة الفلسطينية ستغادر المخيمات متحسرة عليها. بهذا المعنى يكون العُري الأقصى ماضوياً، فالإنسان الذي جرَّبه في الوقت نفسه الذي عرف المرارة يكون قد أحس فرحة بالغة، متوحّدة وغير قابلة للتوصيل. إن مخيمات الأردن المعلقة بمنحدرات مليئة بالأحجار، عارية؛ لكن توجد في محيطها أنواع من العُري أكثر إقفاراً: بيوت من القصدير، وخيم مثقوبة تسكنها أسر كبرياؤها مضيء. لا نكون قادرين على فهم القلب البشري إذا أنكرنا بأن أناساً يستطيعون أن، يتشبثوا بالبؤس المرئي، وأن يزدهوا به؛ وهذه الكبرياء ممكنة، لأن البؤس المرئي يقابله مجد مستتر.
كانت وحدة الموتى، في مخيم شاتيلا، أكثر بروزاً لأن لهم إشاراتهم، وأوضاع لم يهتموا بتحديدها. ماتوا كيفما اتفق. موتى مهملون. ومع ذلك كنا نحس، داخل المخيم، ومن حولنا، بكل عواطف المودة والحنان والمحبة لدى الأشخاص الذين يتنقلون باحثين عن الفلسطينيين الذين لن يردوا أبداً على تلك العواطف.
كيف نُبلغ أقاربهم الخبر، أقاربهم الذين رحلوا مع عرفات، واثقين بوعود ريغان، وميتران، وبيرتيني، الذين طمأنوهم بأن أي سوء لن يصيب سكان المخيمات المدنيين؟ كيف نقول بأن هناك من ساعد على ذبح الأطفال والشيوخ والنساء، ثم تركوا جثثهم بدون صلاة؟ كيف نبلغهم بأننا نجهل أين قُبروا؟
إن المذابح لم تتم في صمت، وتحت جُنح الظلام، فقد كانت الآذان الإسرائيلية، مضاءة بصواريخها المنيرة، مصغية إلى ما يجري في شاتيلا، وذلك منذ مساء يوم الخميس. يا لها من حفلات ومن مآدب فاخرة تلك التي أقيمت حيث الموت كان يبدو وكأنه يشارك في مسرَّات الجنود المنتشين بالخمرة وبالكراهية. ولا شك انهم كانوا منتشين، أيضاً، بكونهم قد نالوا إعجاب الجيش الإسرائيلي، الذي كان يستمع، وينظر، ويشجع، ويوبّخ المترددين في قتل الأبرياء. إنني لم أرَ هذا الجيش الإسرائيلي رؤية العين والأذن، غير أنني رأيت ما فعله.
فإذا كان الإسرائيليون لم يزيدوا على أن أناروا المخيم، واستمعوا إلى الطلقات النارية التي تشير إلى وجود ذخيرة كبيرة لكثرة ما دُسته من كبسولات الرصاص (عشرات الآلاف)، فمن كان يطلق النار حقيقة؟ من كان، وهو يقتل، يخاطر بجلده؟ الكتائب؟ الحداديون؟ مَنْ؟ وكم عددهم؟
أين ذهبت الأسلحة التي خلَّفت كل هؤلاء الموتى؟ وأين هي أسلحة أولائك الذين دافعوا عن أنفسهم؟ في الجزء الذي زرته من المخيم، لم أر سوى قطعتين من السلاح المضاد للدبابات، غير مستعملتين.
كيف دخل القتلة إلى المخيمات؟ هل كان الإسرائيليون موجودين في جميع المخارج المتحكّمة في مخيم شاتيلا؟ في جميع الحالات، لقد كانوا منذ يوم الخميس بمستشفى عكا، مواجهين لأحد مخارج المخيم.
لا بد من أن نعلم بأن مخيمي شاتيلا وصبرا، هما عبارة عن عدة كيلومترات من الأزقة الضيقة ـ لأن الأزقة، هنا، ضيقة إلى درجة لا يستطيع شخصان ان يتقدما فيها الا إذا سار أحدهما مجانباً ـ وهي مزدحمة بالحصى، والأحجار، والطوب، والخِرق البالية القذرة، والمتعددة الألوان. وفي الليل، تحت ضوء الصواريخ الإسرائيلية التي كانت تُنير المخيمين، فأن خمسة عشر رامياً، أو عشرين، ولو بأفضل الأسلحة، ما كان بوسعهم أن ينجحوا في تحقيق هذه المجزرة. إن قاتلين قد أنجزوا العملية، لكن جماعات عديدة من فرق التعذيب هي، في غالب الظن، التي كانت تفتح الجماجم وتشرح الأفخاذ، وتبتر الأذرعة والأيدي والأصابع، وهي التي كانت تجر، بواسطة حبال، محتضرين معاقين، رجالاً ونساءاً كانوا لا يزالون على قيد الحياة، ما دام الدم قد سال أمداً طويلاً من الأجساد، إلى درجة انني لم أتمكن من أن أعرف مَنْ هو الذي ترك داخل ممر أحد البيوت، ذلك الجدول من الدم المتيبس الممتد من قاع الممر، حيث كانت البقعة، إلى عتبة البيت، حيث اختلط الدم بالتراب. هل كان دم فلسطيني؟ أم دم امرأة؟ أم هو دم كتائبي أجهزوا عليه؟ وفي بيروت، لم تكد المذبحة تُعرف حتى أخذ الجيش اللبناني على عاتقه، رسمياً، المخيمات، فبادر إلى محوها، مخفياً بذلك أطلال البيوت، وبقايا الجثث. من أمر بذلك التعجيل؟ وقد تم ذلك بعد التأكيد الذي أذيع عبر أنحاء العالم، وهو أن المسيحيين، والمسلمين، قد تقاتلوا فيما بينهم؛ وبعد أن سجلت الكاميرات وحشية القتال.
ذلك ما أعلنه بيغن أمام الكنيست: «أشخاص غير يهود ذبحوا آخرين غير يهود، ففي أي شيء يعنينا ذلك؟».
في زقاق ضيّق، وداخل ستار مصنوع من شوك الأشجار، خُيل إليّ أنني لمحت ملاكماً أسود طريحاً على الأرض وهو يضحك، متعجباً من أن يكون مصروعاً. لا أحد واتته الشجاعة لكي يغمض له جفونه، فظلت عيونه الجاحظة، عيون من خزف شديد البياض، تنظر إلي. كان يبدو مخذولاً، وذراعه مرفوعة ومستندة إلى تلك الزاوية من الجدار. كان فلسطينياً ميتاً منذ يومين أو ثلاثة. وإذا كنت قد حسبته، أول الأمر، ملاكماً أسود، فلأن رأسه كان ضخماً، منتفخاً ومسوداً مثل جميع الرؤوس والأجساد، سواء أكانت في الشمس أم في ظل المنازل. مررت بالقرب من رجليه. التقطت من التراب طاقم أسنان للفك الأعلى، وضعته فوق ما تبقى من الاطار الخشبي لإحدى النوافذ. تجويفة يده الممدودة نحو السماء، فمه المفتوح، فتحة بنطلونه الذي ينقصه الحزام: كأنها خلايا كان الذباب يقتات منها.
اجتزت جثة أخرى ثم ثالثة. وفي ذلك الفضاء المغبِّر، وبين الميتين، كان هناك، آخر الأمر، شيء في منتهى الحيوية، غير مخدوش وسط هذه المجزرة، لونه وردي نصف شفاف، وكان لا يزال في وسعه ان يُفيد: ساق اصطناعية من البلاستيك ظاهرياً، وتنتعل حذاء أسود، وجورباً رمادياً. وبتدقيق النظر، اتضح انها قد انتُزعت بخشونة من الساق المبتورة، ذلك ان الأحزمة التي تشدها إلى الفخذ، كانت مقطوعة كلها.
كنت أبذل جهداً لعدّ الموتى الأوائل، فلما وصلت إلى الميت الثاني عشر، أو الخامس عشر، لم أعد قادراً على الاستمرار في العد، وقد غمرتني الرائحة والشمس، وأخذت أتعثر عند كل حفرة... كان كل شيء يختلط أمام بصري.
لقد سبق لي أن شاهدت بيوتاً مبقورة تتدلى منها لحف من ريش، عمارات منهارة، فلم يُحرك ذلك في نفسي ساكناً؛ لكنني وأنا أشاهد بيوت بيروت الغربية، ومخيم شاتيلا، فإنني كنت أشاهد الرعب. إن الموتى الذين أجدهم، عادة، وبسرعة، مألوفون، بل ودّيون، ولم أستطع أن أميز فيهم، وأنا أنظر إلى قتلى المخيمات، سوى كراهية وسرور أولائك الذين قتلوهم. حفلة وحشية جرت هناك: سمر، نشوة، رقص، غناء، نداء، عويل، تأوهات... على شرف متفرجين كانوا يضحكون وهم جالسون في الطابق الأخير من مستشفى عكا.
لقد أمضيت أربع ساعات في شاتيلا، ولا يزال في ذاكرتي أربعون جثة تقريباً. وهي كلها ـ ألح على أنها كلها ـ قد تعرضت للتعذيب غالباً، وسط نشوة المعذِّبين، وأغانيهم، وضحكاتهم، ووسط رائحة البارود.
لا شك أنني كنت وحيداً، أقصد أنني كنت الأوروبي الوحيد (مع بعض العجائز الفلسطينيات اللائي لا يزلن يتشبثن بخرقة بيضاء ممزقة، ومع بعض الفدائيين الأشبال دون أسلحة)، لكن لو أن هؤلاء الأشخاص الخمسة، أو الستة، لم يكونوا موجودين هنا، واكتشفت وحدي تلك المدينة الصريعة المجندلة، والفلسطينيين الممددين أفقياً بجثثهم السوداء المنتفخة، لكنت قد صرت مجنوناً. أم أنني صرت بالفعل مجنوناً؟ هل تلك المدينة المهشّمة المحطّمة التي رأيتها، أو ظَننْتُ أنني رأيتها، وتجوّلت فيها، وهي محمولة على رائحة الموت القوية، كانت، بالفعل موجودة؟
إنني لم أرتد ولم أسبر جزءاً محدوداً من شاتيلا وصبرا، ولست متأكداً من أنني فعلت ذلك بالقدر الكافي. إلا أنني لم أزر بئر حسن، ولا مخيم برج البراجنة.
عند عودتي من بيروت، وفي مطار دمشق، قابلت فدائيين شباباً نجوا من الجحيم الإسرائيلي. كان عمرهم ست عشرة أو سبع عشرة سنة: كانوا يضحكون، وكانوا شبيهين بفدائيي عجلون. انهم سيموتون مثلهم. فالمعركة من أجل البلاد يمكن أن تملأ حياة جد غنية، لكنها قصيرة. وهذا، كما نذكر، هو اختيار أخيل في ملحمة الإلياذة.
جان جينيه أديب فرنسي معروف مناصر لقضية فلسطين. وقد نشر هذا النص في مجلة الدراسات الفلسطينية (بالفرنسية)، ثم ترجمه محمد برادة لينشر في مجلة «الكرمل»، العدد السابع، 1983.
Tweet
إقــرأ أيضــا مــن: عدد
أيلول 2011
إيضاح وتصحيح
 
صـورة المجزرة فـي صحافـة العالـم
 
Please enable JavaScript to view the
comments powered by Disqus.
comments powered by
Disqus
إقرأ للكاتب نفسه
أسير عاشق
آب 2011
أربع ساعات في شاتيلا
أيلول 2010
الأكثر قراءة
في الملحق
في الموقع
بصمت، إسرائيل تنفذ مشروع E1: لا دولتين ...
عبد الرؤوف أرناؤوط - آذار 2016
عن فتية السكاكين والصبايا المنذورات ...
طلال سلمان - آذار 2016
"السفير" تحاور عمر البرغوثي "المقاطعة" ...
عماد الرجبي - آذار 2016
ما زالت الروزنامة تتسع لمناسباتٍ جديدة
خالد فرّاج - آذار 2016
"عمر" يتسبّب بفصل المربّي علي مواسي: ...
رشا حلوة - آذار 2016
الأكثر مشاركة
في الملحق
في الموقع
كيف سقطت يافا؟ قصّةٌ تروى!
أنس أبو عرقوب - أيار 2016
بصمت، إسرائيل تنفذ مشروع E1: لا دولتين...
عبد الرؤوف أرناؤوط - آذار 2016
عن فتية السكاكين والصبايا المنذورات...
طلال سلمان - آذار 2016
"السفير" تحاور عمر البرغوثي "المقاطعة"...
عماد الرجبي - آذار 2016
المشروع الوطني الفلسطيني: أزمة الرؤية...
رازي نابلسي - آذار 2016
إخترنا لكم
نشرة آذار - 2016
ملاك خليل - آذار 2016
ما زالت الروزنامة تتسع لمناسباتٍ جديدة
خالد فرّاج - آذار 2016
رحلة عبّود من غزّة إلى تركيا
طه يونس - آذار 2016
"السفير" تحاور عمر البرغوثي "المقاطعة"...
عماد الرجبي - آذار 2016
بصمت، إسرائيل تنفذ مشروع E1: لا دولتين...
عبد الرؤوف أرناؤوط - آذار 2016
الأرشـيف
بحسب
التوزيع الجعرافي
:
فلسطين،
العالم،
غــزّة،
الضفة الغربية،
أراضي 48،
لبنان،
حيفا،
القدس،
رام الله،
نابلس،
بريطانيا،
كنــدا،
المغرب،
أميركا،
سوريا،
الأردن،
عكّـا،
المزيد ...
بحسب
المواضيع
:
المقاومة،
إسرائيل،
الثقافة،
الحياة الاجتماعية،
الأسرى،
المقاطعة،
إقتصاد وسياسة،
الشتات،
المخيمات،
سياسة،
المزيد ...
بحسب
الأعــداد
:
آذار 2016
شباط 2016
كانون الثاني 2016
كانون الاول 2015
تشرين الثاني 2015
أكتوبر 2015
أيلول 2015
آب 2015
تموز 2015
حزيران 2015
أيار 2015
نيسان 2015
آذار 2015
شباط 2015
كانون الثاني 2015
كانون الأول 2014
تشرين الثاني 2014
تشرين الأول 2014
أيلول 2014
آب 2014
تموز 2014
حزيران 2014
أيار 2014
نيسان 2014
آذار 2014
شباط 2014
كانون الثاني 2014
كانون الأول 2013
تشرين الثاني 2013
تشرين الأول 2013
أيلول 2013
آب 2013
تموز 2013
حزيران 2013
أيار 2013
نيسان 2013
آذار 2013
شباط 2013
كانون الثاني 2013
كانون الأول 2012
تشرين الثاني 2012
تشرين الأول 2012
أيلول 2012
آب 2012
تموز 2012
حزيران 2012
أيار 2012
نيسان 2012
آذار 2012
شباط 2012
كانون الثاني 2012
كانون الأول 2011
تشرين الثاني 2011
تشرين الأول 2011
أيلول 2011
آب 2011
تموز 2011
حزيران 2011
أيار 2011
نيسان 2011
آذار 2011
شباط 2011
كانون الثاني 2011
كانون الأول 2010
تشرين الثاني 2010
تشرين الأول 2010
أيلول 2010
آب 2010
تموز 2010
حزيران 2010
أيار 2010
حـول الموقع
مـن نحــن
اتصــل بنــا
شروط الاستخــدام
تطبيقـات
فلسطيــن على فايسبـــوك
فلسطيــن على تويتــر
مواقع أخـرى
جريــدة الســـفير
الــسفير العـــربي
شبـــاب الســــفير
المركز العربي للمعلومات
جميــع الحقـــوق محفوظـــة © 2019 السفــيــر